الأربعاء، مايو ٣٠، ٢٠٠٧

اللقاء الثانى


هذه القصة مركبة نوعاً ما و طويلة نوعاً ما و تحتاج إلى تركيز فأعذرونى :)
بقلم ميشيل حبيب.
للمشاهدين من FaceBook يرجى القراءة من موقع البلوج أفضل هنا
إضغط هذه العلامة لتحميل الموسيقى

الزمان: صيف 1986
المكان: عروس البحر المتوسط

خلا كورنيش البحر من المارة تقريباً نظراً لإقتراب إمتحانات الثانوية العامة. كانت الساعة تقترب من الثانية ظهراً حينما مر شادى و ميريام من أمام كازينو بسترودس، أحد علامات شاطىء جليم. لم يتوقفا عنده لكنهما إستمرا فى طريقهما لشاطىء ستانلى و نزلا أمام الكبائن المطلة على البحر مباشرة. خلعت ميريام صندلها الأبيض الذى بدأ نعله يذوب و لونه ينطفىء. أفلتت يدها من يد شادى و جرت بدون أى كلفة على الرمال الساخنة فى إتجاه المياه. رفعت فستانها الأزرق قليلاً حتى لا يبتل كثيراً و توقفت لحظة ثم قذفت بحقيبة يدها الكبيرة إلى شادى و مضت لتدفن قدميها فى المياه. تحسست المياه الصافية بيديها ثم نظرت إلى الخلف لتجد شادى و قد توقف بعيداً عن المياه عاقداً ساعديه و حاجبيه. إبتسمت إبتسامة شقية و هزت كتفيها ثم بدأت ترشه بالمياه حتى لا يبقى هكذا فى مكانه. أخفى شادى وجهه بحقيبتها فى إنزعاج ثم أسرع بخلع حذائه و إنطلق تجاهها فتوقفت عن رش المياه و مدت له يدها. أمسك شادى بيد ميريام و أحاط كتفيها بيده الأخرى و نظرا ساهمين إلى البحر و أمواجه الرتيبة التى كانت تعلو و تعلو ثم تنتهى عند أقدامهما العارية.

جلسا قليلاً فوق الرمال لكى يرتاحا فقد إعتادا أن يمشيان على الكورنيش لساعات طويلة حتى الغروب فى أيام العطلة. لم يسلما من بائعى المياه الغازية و المصورين الذين لا يجدون زبائن كافين فى هذا الوقت من العام. فتارة يستسلم شادى لهم لكى يبقيهم بعيداً و تارة يخرج لهم جيوبه حتى يعلمون أنه ليس لديه أى مال فى هذا اليوم.
مرّ بائع الفرسكا سريعاً فقامت ميريام مسرعة إليه كالأطفال و إستوقفته فهى تعشق الفرسكا المقرمشة الممتلئة بالعسل بين طبقاتها الرفيعة. ثم عادت إلى شادى و أعطته 6 قطع من الفرسكا و جلست مرة أخرى بجواره. مدت يدها لتأخذ واحدة و تأكلها. أخذ شادى ينظر إليها و هو يأكل الفرسكا فقد أحس بطعم الرمال فيها فأشارت ميريام إلى يديها التى ملأها الرمال و هزت كتفيها ضاحكة و هى تنفض يديها. يحمل الهواء الرمال إلى عيون شادى فيطقطق بفمه و يغمض عينيه فى شدة فتمسحهما بأصابعها التى مازالت بها أثار الرمال فيغمضهما أكثر حتى تسيل دمعة أو إثنتان. لا تدرى هل هى من الألم أو الفرحة لكنك تعلم أن هالة من الحب تملأ هذا المكان.
تلتهم ميريام آخر قطعة من الفرسكا و تتذمر فهى جائعة للغاية. يقف شادى و يأخذ بيدها، يرتديان أحذيتهما عند إحدى الكبائن ثم ينطلقان مرة أخرى على الكورنيش.

يتوقفان عند كازينو سان جيوفانى، هذا الكازينو الأرستقراطى العتيق الذى يقع مباشرة على شاطىء ستانلى. ينظران نظرة مطولة إلى الداخل، يبتسم لهم الحارس و يفتح لهم الباب الزجاجى مرحباً بهم. تتردد ميريام فى شدة و تنظر إلى شادى الذى ينقل نظره بينها و بين الحارس ثم يبتسم داعياً إياها إلى الدخول. تقف ميريام عاجزة عن الحركة فيدفعها شادى إلى الأمام قائلاً: ليديز فيرست. تدخل ميريام إلى قاعة الكازينو الداخلية و يتبعها شادى. تنظر إلى ديكورات المكان الشديدة الأناقة ثم تنظر إلى شادى فى قلق فيطمئنها مشيراً إلى حافظته فى ثقة. يتسع وجهها بإبتسامة صافية و تتجه إلى الداخل. يقابلهما نادلاً يرتدى سترة سوداء أنيقة و بابيون. تشير هى إلى منضدة بعيدة ترى البحر مباشرة، فيتحرك الجميع إليها. يناولهما النادل القائمة فى أدب جم كما لو كان يعتذر عن ذنب ما ثم ينصرف بإبتسامة عريضة.

تنظر ميريام إلى أصناف الأكل فى لهفة بينما ينظر شادى إلى الأسعار فى رعب. لكنه كان قد إدخر بعض المال لهذا اليوم الهام، كل ما فى الأمر إنه لم يتعود مثل هذه الأماكن الراقية. تتهادى موسيقى جميلة إلى أذانهما من مكان قريب. إنها أجمل من أن تكون مسجّلة. تتنقل ميريام بعينيها حتى تقع على عازف البيانو الذى يجلس أمام بيانو جميل بقرب مدخل القاعة. أخذت تشير لشادى بيديها إليه فى شكل ملفت حتى جذبا أنظار رواد الكازينو. إنكمشت ميريام فى كرسيها فى خجل بينما رفع شادى عينيه عن القائمة إلى وجهها فى عشق واضح. كم يعشق تلقائيتها الشديدة و حماسها للحياة المتجدد كل يوم برغم كل ما يمروا به من مشاكل. إن تفاؤلها الشديد يملأ حياته بالأمل دائماً. بدأت هى تخمن الموسيقى التى تسمعها، إنها بالطبع إحدى روائع عمر خيرت لكنها لا تدرى أيهم. هى تصر إنها موسيقى خلى بالك من عقلك بينما هو يصر إنها موسيقى قضية عم أحمد. إنها تستمتع بها أياً كانت. أخرجت شيئاً ما من حقيبتها، ما هذا؟ سألها شادى فى فضول. إتسعت إبتسامتها الجميلة الصافية و هى تقول له كل سنة و هو طيب. لقد كانا معاً لمدة سنة بالتمام و الكمال. أمسك شادى بيديها و قبّلها ثم تناول الهدية من بين يديها و فتحها ليجد أجندة بها مفتاحين و قفل صغير. ما هذه الأجندة؟ قال شادى فى دهشة و هو يفتح القفل الصغير.لم تقل شيئاً بل دفنت وجهها فى القائمة فبدأ شادى يتصفحها، لقد إمتلأت صفحاتها بالكثير و الكثيرمن الكلام بخط منمق جميل، هناك قصاصات من أشياء، صور، تذاكر و غيرها...
فتح الصفحة الأولى و أخذ يقرأ بصوت تكاد تسمعه هى:
حبيبى الغالى، منذ عرفتك بدأت أكتب خواطرى، كل يوم يمر، كل ليلة قبل أن أغمض عيناى، أتذكر الكثير من المشاعر و الذكريات الجميلة التى أخاف أن أنام يوماً ما و أنساها. لذا أدونها هنا فى هذه الأجندة و أقرأها عندما أشتاق إليك. ستجد هنا ذكرى لقائنا الأول، تذاكر أول فيلم شاهدناه سوياً ، أول صورة لنا، يوم خطوبتنا، رحلاتنا الجميلة و حتى نزهاتنا الطويلة للغاية على الكورنيش. ذكرى كل يوم جميل قضيناه سوياً و كل ليلة طويلة قضيتها بدون أن أتحدث إليك. حبيبى عام مضى و 365 ذكرى كتبتها و مشاعر كثيرة لم أستطع أن أقولها لكنى كتبتها هنا. ستجد مفتاحان لهذا القفل الصغير. من فضلك إعطنى أحدهم و إبق الآخر معك. إن هذه الأجندة ستبقى شاهداً على حبنا الذى سيبقى أبداً خالداً. إنى لا أطيق صبراُ لكى أتصفح هذه الذكريات معك بعد عشرون عاماً من الآن، فى نفس المكان الجميل الذى أعلم إنك ستأخذنى إليه اليوم إحتفالاً بهذه المناسبة.
لم يقل شادى شيئاً لفترة من الوقت ثم نظر إلى ميريام و قال لها:
- إن هذه هى أغلى هدية فى حياتى لا يفوقها سواك، كم أود لو أضمك الآن بين يدى.
أخفت ميريام وجهها مرة أخرى بين صفحات القائمة فى خجل و رفعت عينيها قليلاً عن القائمة و إبتسمت، لم تقل شيئاً لكنها كانت سعيدة، فهى تجد فى شادى كل ما تتمنى، متأكدة إنه سوف يملأ حياتها إلى النهاية. هو يحبها كثيراً، شديد الطموح و الأدب و متحمل لمسئوليات كثيرة. إنه غاية ما تتمناه فتاة بسيطة الأحلام مثلها.
مرت ساعة و قد قاربا على الإنتهاء من غذائهما، نظر شادى إلى الأطباق الفارغة و قال لها فى جدية:
- ميريام، هناك موضوع ما أود التحدث فيه إليك مرة أخيرة.
- خيراً؟
سكت شادى قليلاً فأشاحت ميريام بوجهها نحو البحر. قال شادى:
- أنا أعلم رأيك به جيداً لقد تحدثنا فيه كثيراً و لكنى أعرف تماماً ما هو الصالح لنا.
- بل الصالح لك أنت.
- أنت تعلمين كم هو صعب أن نبدأ حياتنا هنا، فأنا بالكاد أدخر ما يكفى لمصاريفنا.
- لكنى سأبقى بجانبك هنا، سأكون معك دائماً لأشجعك و أدفعك للأمام.
- أنا لا أرى لنا مستقبلاً هنا، إن فرصتنا لحياة كريمة و سهلة بالخارج أفضل بكثير من هنا.
- لكننا سنبتعد عن أهلنا و أصدقائنا و أماكننا المفضلة، هل نضحى بكل ذلك؟
- و ما فائدة ذلك كله بدون بيت واسع جميل و عمل مناسب و حياة كريمة و مستقرة فى أمان؟
- لقد خلقت الحياة لكى نتعب بها و نشعر بقيمة عملنا و عرقنا.
- لكنى لدى طموح كبير فى عملى و لدى طموح أكبر لبيتى و أبنائى.
- تقصد بيتنا و أبنائنا!
- (فى حرج) نعم هو كذلك.
- هل ترضى لأبنائنا أن يكبروا فى بلاد غريبة فى مجتمع غريب؟ سيتعبون كثيراً فهم لن يستطيعوا أن يندمجوا مع ثقافتين متضادتين. إما سيصبحون مثلهم، غرباء عنا تماماً، أو مثلنا، غرباء عنهم تماماً. و فى الحالتين سيعانون الكثير أو سنعانى نحن الكثير.
- إذن فلأذهب وحدى، هل ستنتظرينى؟
- و هل ستعود أنت؟
- ينبغى أنت تأتى أنت و تشاهدى، فكل شىء هناك جميل.
- هل ذهبت أنت من قبل؟
- الجميع يحكون.
- إنهم يتعبون كثيراً.
- و ينالون ما يقصدون.
- لكنهم لا يرجعون، أنا لا أتصور الحياة بعيداً عن كل ما أحببت.
- إذن لن تتركينى أذهب وحدى؟
- لم لا تعطينا فرصة هنا أولاً و سأكون معك فى كل خطوة.
- لكن طموحى بالفعل أكبر من ذلك بكثير.
- لكن كل ما أريده هو أنت، إن أحلامى أبسط من ذلك بكثير بل إن أحلامى هى بين يدى بالفعل الآن.
- إذن تعالى معى.
- هل طموحك أهم منا؟ هل تعلم ما يحدث للسمكة إن أخرجتها من الماء؟ أنا لا أستطيع العيش بعيداً عن حياتى هنا طالما إستطعت البقاء و الكفاح فيها.
- هل هذا هو قرارك الأخير؟
- هل هذا هو قرارك أنت الأخير؟


أطرق شادى برأسه فى الأرض ثم نظر إلى وجهها فوجدها تبكى فى هدوء. عيونها تلمع و دموعها تسيل على وجنتيها. دفن شادى يديه بين كفيه لمدة طويلة، إنه فى صراع عنيف، بين حلم جميل فى يديه و حلم آخر يسعى إليه. عليه أن يختار ما سوف يجعلهما سعيدان. إن كل إختيار منهم سيرسم ملامح مختلفة لحياته كلها. هل يضحى بطموح عمره ؟ هل سيستطيع أن يجعلها سعيدة؟ ربما نعم، ربما لا. هل سيكون هو سعيداً؟ لا يعلم. هى طموحها بسيط لكنه جميل. هل يضحى بحبيبته؟ هل سيجعله نجاحه بالخارج سعيداً؟ هل يجد حبيبته من جديد إن تركها الآن؟ لا يعلم. لم يكن الإختيار بسيطاً لكنه كان قد حدد إختياره مسبقاً قبل هذا اليوم.

لم يعد يسمع صوتها، لم يعد يسمع صوت الموسيقى، بدأ يشعر بالبرودة قليلاً و شعر أيضاً بالظلام من حوله. رفع شادى يديه من أمام عينيه و نظر فلم يجدها أمامه. لكنه وجد نادلاً يسأله بأدب:
- هل تشرب شيئاً يا باشا؟
لقد تغير كل شىء من حوله تماماً، لقد إختفت ميريام، لقد إختفت الشمس تماماً و حل محلها الظلام. لم يعد الوقت نهاراً صيفاً بل صار ليلاً شتاءاً. نظر شادى من خلال النافذة. رباه لقد تغير كل شىء من حوله. لم تعد هناك أى من الكبائن، لقد تم إزالتها جميعاً. يستطيع أن يرى كوبرى ستانلى الجديد الذى يمتد فوق المياه، تحمل معالمه نفس معالم كوبرى المنتزه الشهير. من داخل الكازينو ترى أضواء الكشافات الملونة تضىء أسفل الكوبرى بألوان متعددة ترسم لوحة فنية جميلة مع أمواج البحر الهائجة. نظر شادى حوله لم يتغير الكازينو نفسه كثيراً، مازال كل شىء كما هو، محتفظاً برونقه و أناقته و عبق ذكرياته.

سمع صوتاً ينقر على الزجاج نظر إليه فوجد أمطاراً غزيرة تحجب الرؤية. أطال النظر فى النافذة فوجد إنعكاس صورته على الزجاج، كم من سنوات طويلة مريرة نالت منه، لقد خط الشيب فوديه و رسم الزمن خطوطه على وجهه و جبينه. أكثر من عشرين عاماً مضت على لقائه بميريام، لقد كان لقائه الأخير بها. رفضت هى مقابلته بعد هذا اليوم. لم تكن تعلم إن أوراقه جاهزة للسفر. سافر هو يسعى لتحقيق حلمه لم يضع لحظة واحدة. كيف ضحى بحبها له؟ كيف تركها بهذه السهولة؟ لا يدرى. كما لو كان حلماً بعيداً و قد إنطمست معالمه كلها. لقد توالت الأحداث سريعاً بعدها. حقاً كما يقولون إن الغربة تسرق العمر. لقد سعى للماجيستير و الدكتوراه و فترات طويلة من العمل لكى ينهي مصاريف دراسته. طالما فكر بها، ماذا فعلت بعده؟ هل مازالت تذكره؟ هل تزوجت؟ لم يكن مستعداً بعد للعودة فهو لم يدخر مالاً بعد كل سنوات الدراسة هذه. كما لم يكن لديه فرصة ليقابل فتاة مناسبة. لقد سخّر كل وقته للدراسة، كما لو كانت هى سبيله لنسيان حبيبته. كلما تعرّف إلى أحد، صار يقارن بينهما و كانت الغلبة دائماً لها وحدها. لم يجد روحاً بهذا النقاء، لم يجد أحداً يحبه كل هذا الحب. هل ينتقم القدر منه؟ إذن ليترك الأمر برمته للقدر. لقد مضى يعمل سنين طويلة للغاية و نال كل ما طمح إليه من نجاح علمى و عملى و صار لديه منزلاً رائعاً و سيارة تخلب الألباب. صار الجميع يقدرونه و يحترمونه لكنه أحس أن أهم ما يحتاجه ينقصه. إنه برغم كل ذلك ليس سعيداً. لقد علمته الحياة أنه يجب أن يضحى بشىء ليحصل على شىء آخر كما علمته أن الإنسان مهما نجح و نال فى حياته فهو لا يرضى بما له. بل دائماً يريد المزيد. لكنه بالفعل كان لا يستطيع تذوق حلاوة نجاحه بدون مشاركتها هى وحدها له. هنا فقط أدرك إنه لا فائدة من كل ما يعمله، هنا فقط بدأ يحس بالتعب و الإحتياج إلى الراحة و التوقف حتى يحدد ماذا يريد أن يفعل.

الزمان: شتاء 2007
المكان: عروس البحر المتوسط

لم تمض عليه بضعة أيام حتى كان فى الإسكندرية. لم يسأل عنها و لم يقل له أحد شيئاً. كانت زيارته الأولى من عشرين عاماً. توجه فى تلك الليلة الممطرة إلى ذات الكازينو حيث جلس يسترجع ذكريات لقاء آخر يوم بينهما و كانت بيده تلك الأجندة يتصفحها. دفن وجهه بين كفيه يستعيد ذكرى هذا اليوم كما لو كان بالأمس و قد عاونته الأجندة على تذكر أدق التفاصيل حتى سمع صوت النادل فجأة يكرر مرة أخرى فى أدب:
- هل يأمر الباشا بشىء؟
- شوكولاتة ساخنة من فضلك.
نظر شادى بعيداً إلى أحد الأركان التى يفصله عنها الزجاج فرأى عائلة صغيرة تتجاذب أطراف الحديث. كانوا ثلاثة أفراد، يبدون فرحين، يحتفلون بمناسبة ما فهناك كعكة ما و شموع كثيرة. الرجل يشبهه كثيراً لكنه ليس هو. فالرجل أرفع كثيراً و ثيابه أقل أناقة منه و يبدو عليه الهزال و التعب، لكنه يبدو أكثر سعادة. عجباً إنه بالفعل يحمل ملامح تشبهه إلى حد كبير. أما عن السيدة فظهرها له، شعرها رمادى و ترتدى فستاناً أسود اللون، ليس أنيقاً لكنه يليق بها و يبدو كما لو كان مفصلاً لها. تتحرك فى خفة أثناء كلامها فتبدو عليها الحيوية. أما عن الفتاة، فهو لا يراها، السيدة تحجبها تماماً. ظل شادى يراقبهم من بعيد و لا يدرى لماذا شغف بهم. قامت السيدة و مضت بعيداً، إنه يرى الفتاة بوضوح، إنها ليست فتاة، إنها ميريام، نعم إنها هى، لم تتغير مطلقاً. بالطبع غيرّت طريقة تصفيف شعرها، لكنها هى، وجهها الجميل، ضحكتها الصافية، لا يسمعها عبر الزجاج لكنه يراها. حتى طريقتها فى هز أكتافها من حين لآخر لم تتغير. و من هذا الرجل الذى تحدثه بكل إهتمام ؟ هل ينهض الآن ليتحدث معها؟ لا، لقد حصل بطريقة ما على رقمها من عدة أيام، فليتصل بها. رفع هاتفه و طلب رقمها لعلها ترد. هناك ما يجذب إنتباهها بالفعل، إنها تبحث عن شىء ما فوق المنضدة، وجدته بعيداً أمامها، إنها ترد الآن، يسمع صوتها تقول:
- ألو
- ألو ميريام؟
- نعم، من المتحدث؟
- أنا شادى، ألا تذكرى صوتى؟
- عفواً لا أتذكر لكن صوتك مألوف و إسمك يشبه إسم شخص قريب لى.
قامت ميريام من مقعدها و إتجهت بالقرب من الزجاج فرآها بوضوح أكثر، دقّ قلبه بشدة. لقد فجرّت رؤيته لها كل مشاعره التى باتت مدفونة طوال عشرين عاماً. إنه لغريب أن الزمن لم يمسّها بعلاماته كما فعل به. إنها تبدو كما لو كانت نفس الفتاة التى تركها من عشرين عاماً.
- ربما الزمن قد أنساكى فلم نتحدث من عشرين عاماً
ضحكت ميريام ضحكة صافية و قالت:
- لم أكن أعيش من عشرين عاماً بعد.
- لكى كل الحق أن تمحى كل ذكرى لى بعد ما حدث بيننا فأنا لم أكن أعيش طوال العشرين عاماً الماضية بسبب ما حدث.
توقفت الفتاة عن الحديث و بدأت تتوترمن كلامه فقال:
- إنتظرى أرجوكى إسمعى كلامى فأنا إنتظرت عشرين عاماً لأقول لك هذا الكلام.
رأت ميريام شادى و هو يشير إليها من خلال الزجاج فتسمّرت فى مكانها لكنها لم تغلق الخط.
ألصق شادى يده بالزجاج و واصل كلامه عبر الهاتف، فلم يكن يجرؤ أن يحدثها وجهاً لوجه:
- لقد أضعت عمرى أبحث عن السعادة فى المكان الخطأ و كثيراً ما راودتنى أحلام تجمعنا فى بيت صغير و أسرة جميلة. ربما ليس لدينا قصراً عظيماً أو سيارة كبيرة فى هذا الحلم لكننا سعداء.
إقتربت ميريام أكثر من الزجاج و لامست يديها الزجاج الفاصل بين يديهما و شادى يواصل:
- فى هذا الحلم ربما لم أحصل على لقب دكتور و ليس لدى أموالاً طائلة لكن وجودك بجانبى يعطينى الدافع و الثقة كل يوم لأواصله برضاء شديد.
- أنظرى إلى الآن. إنى مستعد لأن أضحى بكل ما لى من أموال و مناصب و ألقاب و عقارات لكى أحظى بلمسة حب و إهتمام من يديك. فهل تقبلى هذا؟
لم تنطق ميريام بشىء بل سالت دموعها على الزجاج. و جاءت السيدة ذات الشعر الرمادى، الآن فقط يراها و بدا وجهها مألوف إلى حد رهيب. رأى إسمه على شفتيها، أخذت الهاتف من الفتاة و قالت:
- شادى، ماذا تفعل هنا؟
نقل شادى نظره بينهما و بين الرجل الذى كان جالساً لقد إختفى الآن! ألقى شادى هاتفه و جرى بعيداً إلى الخارج و هو يصرخ:
- أنا لا أفهم شيئاً أنا لا أفهم شيئاً.

فجأة أظلمت الدنيا أمامه و لم يعد يرى شيئاً أو يفهم شيئاً فأخذ يصرخ فى شدة لكن صراخه لم يتجاوز حلقه حتى صحا فجأة من النوم لقد كان كابوساً مخيفاً. كان الظلام حالكاً فأضاء نور الأباجورة. أدار الكاسيت الصغير بجواره ليسمع أنغام عمر خيرت ثم أخرج من الكومودينو أجندة و فتح قفلها بمفتاح صغير و أخذ يكتب فيها:
اليوم إحتفلنا أنا وميريام بعيد ميلاد إبنتنا العشرين فى نفس المكان الذى أخذت فيه أهم قرارات حياتى ألا و هو إختيار حبيبتى ميريام و التضحية بحلم الهجرة للخارج. اليوم فقط أدركت أننى لم أضحى بالكثير، فوجودى بجوار زوجتى الحبيبة و إبنتنا ميريام الصغيرة التى تشبهها إلى حد عجيب جعل منى شخصاً أفضل بل أسعد مخلوقات هذا الكوكب التعيس فيكفى أنك يا حبيبتى مازلت تحبينى بعد كل هذه الأعوام. إنى سعيد للغاية.

أغلق شادى أجندته و أطفأ الأباجورة ثم قبّل زوجته فوق شعرها الرمادى و أسند رأسه على يدها و راح فى سبات عميق.

هناك ٩ تعليقات:

2B || ! 2B ® يقول...

ya ka2eeeeeeeeep. no really too much to bear :) yet i enjoyed Stanley and saint Giovanni and may be the young charismatic lady :P and of course 2adeyet 3am a7mad, bas i paused it till i finish the story because it rings different bells at my end ;) bas bardo mayemna3ash ka2apaaaaaa sa7ee7

carol 2002 يقول...

يا ميشو بجد .. مش عارفه اقولك إيه
فى كل مره أكون حَذِره لكى لا أقع فى خدعه من خًدعك
حرام كل مره .. أعيط كده :)
أكثر من هايله و رائعه طبعا
و لكن أكثر شىء أعجبنى
فكرة القصه نفسها و الصياغه البارعه
فنان و قصاص ماهر
بجد .. ربنا يوفقك

غير معرف يقول...

la2 asfa ana mesh ha3zorakkkk
7aram 3aleik elli bete3melou feya dahhh..fel awel 7'ales olt we heya betegry fel ba7r hate3'ra2 bas la2itha hateb2a osayara we ka2iba we malhash ma3na:)we ba3dein olt el wad safer fe3lan we heya 2tgawezet we di bentaha, ba3d kol dah tele3 howa elli 2tgawezha????we kaman kan beye7lam we se7i yekteb fel agenda!!!
einta gabbbbbaaaaaaaaaaaaarrrrrrr
el muse beta3tak di fadya shaklaha..we 3'azaletha ray2a:)
bas bgad el kessa gamda mooootttttttbgad to7fa..
Bonne continuation meshmesh

Misho يقول...

(spoiler warning)

eMinaz:
el 3ebra bel nehaya ya Brenss :)
why Ka2aba? isn't it a happy ending after all? :)
It rings all the bells at my end, gotta ring the bells to many ppl i bet.

Carol 2002:
beware of the next time :)
believe it or not, most of the tricks were created after i started writing. I started with one story, and I ended completely with a different one.

Koki:
we kaman 7ara2tili el kessa? enti mesta2sadani leh enaharda :)

Lamma Helwa يقول...

menak llah :D

Mondo يقول...

gamda moooooooooooooooooooooooooooooooot

Mohamed Hesham Safa يقول...

حلوة جدا يا استاذ ميشو ...

!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!

Fady Karam يقول...

بجد فوق الممتازة انت انسان حساس و رائع، مرة تانيه : تصفيق حاد
بندق

غير معرف يقول...

بجد أكتر من روعة . أنا فعلا عنيا دمعت . بجد إنت إنسان حساس أوي ورومانسي وعندك مشاعر واحاسيس حلوة . ربنا يوفقك