الثلاثاء، سبتمبر ٠٤، ٢٠٠٧

النهاية


للمشاهدين من FaceBook يرجى القراءة من موقع البلوج أفضل هنا

إضغط هذه العلامة لتحميل الموسيقى

كان فندقاً ضخماً فخماً، يطل على ساحل البحر. بأعلى طوابقه مطعماً كلاسيكياً أنيقاً، واجهته زجاجية تماماً تكشف عن مشهد خرافى لمارينا اليخوت أمام الفندق و أضواء المدينة الساهرة حتى نسمات الصباح الأولى. فى موقع متميز أمام أحد نوافذ المطعم جلست هى على مائدة صغيرة. كانت الإضاءة خافتة للغاية تكاد تكون معدومة، يضىء وجهها شمعة صغيرة تتوسط المائدة. تنساب الموسيقى الحية لآلة الكمان من مكان بعيد، المقطوعة مألوفة، سمعتها فى كثير من الأفلام الأجنبية القديمة لكنها لا تميزها.

أما هو، فكان يجلس بجانبها، مواجهاً النافذة، لم تكن ملابسه تناسب المكان لكنه لم يلق بالاً و لم يبدو أى من الحضور يأبهون به أو بثيابه الرثة. كان شاخصاً النظر إليها، متأملاً وجهها الجميل. لم يدرك الكثيرون جمالها. لكنه يراها اليوم فى أبهى صورة لها، إن جمالها يزداد يوماً عن يوم. كما لو كان الزمان يضيف بحكمته جمالاً على جمالها. رداؤها الأسود اللامع الذى يكشف فى حرص عن أكتافها الرقيقة. عنقها الطويل الذى يلفه سوار فضى ينتهى بحلية رقيقة تلمع بشدة أحجارها الكريمة مع حركة ضوء الشموع الخافتة. لو كان دافينشى هنا لكان رسم لوحة تضاهى الجيوكندا. إن إبتسامتها الحانية الصافية على وجهها الصغير و ملامحها البريئة كانت دائماً تجعله يحلّق فى سعادة طاغية. ساعة كاملة مرت لم يتبادلا فيها كلمة واحدة. لم يملّ هو من النظر إليها طوال الوقت فى شغف شديد و إرتياح عظيم.

لم تكن تنظر إليه بل إلى ساعتها فى قلق كأنما تنتظر شيئاً ما، ألا يكفيها وجوده؟ مدّ يده فوق يدها لكى يجذب إنتباهها إليه لكنها لم تشعر بها. تجهّم وجهه بينما إقترب صوت الموسيقى منهما. توقف عازف الكمان فى كياسة أمامها و مضى يعزف أعذب ألحانه فى إندماج تام و حنكة شديدة، كما لو كان يستمد مهارته من جمالها الأخاذ. رفعت عيونها إليه فى إبتسامة مشجعة. كانت رموشها الطويلة تحجب عيونها السوداء الواسعة حتى هذه اللحظة التى دامت لثوانٍ قليلة ثم عادت مرة أخرى تطرق برأسها إلى الأرض. و مضى العازف الذى كان يرتدى حلة سوداء أنيقة و بابيون فضى فى دورة كاملة حول مائدتها يشجى أجمل ألحانه، التى كانت بالصدفة هى لحنها المفضل من موسيقى ينّى الشهيرة بإسم حلم الرجل الأوحد. ثم بدأ يمضى مبتعداً متجهاً إلى البيانو حيث زميله يشاركه العزف على نفس المقطوعة.

فى نفس الوقت ولج إلى داخل المطعم رجلاً أنيقاً تبدو عليه ملامح الهيبة. إتجه فى ثقة و حزم إلى مائدتها، نظر فى طريقه إلى العازفين و أومأ برأسه ممتناً، بينما إنحنى العازفان فى إحترام و إعتزاز.
توقف الرجل أمامها فى تبجيل و أسف ملتقطاً يدها فى حنو بالغ مقبّلا إياها قائلاً:
- عفواً يا حبيبتى لتأخيرى، أتمنى أن تكون الموسيقى قد نالت إعجابك، لقد إخترتها لأنها الوحيدة التى تعبر عن حلمى الوحيد.
سحبت يدها فى حياء ورمقت بطرف عينيها رواد المطعم الذين إختلسوا النظرات و الهمسات و قد بدأ البعض يشير إليهم فى إعجاب و ربما حقد شديد. ثم قالت فى دلال:
- أى حلم هذا؟
نظر إلى عينيها بعمق شديد و قال بلهجة واثقة لا تدعى مجالاً للكلام:
- إنه أنتِ بالطبع. هل تشكين فى هذا؟ كل عام و نحن طيبون و نحن سوياً دائماً و أنت بخير و سعادة.
قال هذا و قد أخرج من جيبه صندوقاً صغيراً بلون أحمر داكن و فتحه ببطء شديد.
إلتمعت عيناها بشدة فى ضوء الشموع كما إلتمع الخاتم أيضاً من داخل الصندوق. إنفرجت أساريرها و قالت:
- عيد زواج سعيد يا حبيبى.

توقف الزمن عند هذه اللحظة عندما إنتفض الشاب الرث الثياب الذى كان يجلس بجوارها و قد أدرك أن لا أحد يعره أى إهتمام فى المكان. قفز من مقعده و حاول الإمساك بيدها قبل أن تلتقط الخاتم الثمين. لكنه و لشدة دهشته لم يستطع أن يمسك بيدها. لقد أمسك بالهواء بل لم ينتبه إنسان لوجوده. فى لحظات قليلة حاول أن يفسر موقفه و لم يستطع. وقف فى وسط الموائد و لم ينظر إليه أحد. مر بجواره النادل و لم يعره أى إنتباه ! إنهم يتعمّدون إنكار وجوده فى وسطهم. أخذ يفكر فى صمت، أإلى هذا الحد لا يهتم به أحد؟ حتى هى؟ ألهذه الدرجة تتجاهله؟ لقد جلس بجوارها فى هذا المكان لساعة كاملة و لم تقل له شيئاً، لماذا؟

تجاوزت الكلمات عقله و بلغت حلقه هذه المرة، لماذا؟ لكن لم يسمعه أحد. إتجه إلى أحد الموائد محاولاً إلقاء ما فوقها ليجذب إنتباههم. لم يمنعه أحد، لكن لم يستطع أن يفعل ذلك، لقد إخترق جسده المائدة، أو هو طيف جسده؟ تراجع فى ذعر. نظر إليها نظرة أخيرة، لقد كانت تجلس فى سعادة مع حبيبها تتبادل معه حديث عذب. كان يمكنه أن يسترق السمع لهما لكنه لم يحتمل هذا. شق طريقه خلال الموائد. لم يمنع طيفه أى شىء فقد مر خلال العديد من الموائد و النادل و العازفين و باب الدخول فوجد نفسه أمام المصعد. لم يحتاج إلى مصعد؟ كانت هناك علامة تقود إلى سطح الفندق. صعد الدرج فى سرعة ليجد نفسه فوق سطح المبنى، لم يمنعه شىء من الوقوف هناك حيث كان يرى المدينة بأكملها و كانت السيارات تبدو صغيرة للغاية. هناك جلبة ما أمام الفندق، العديد من سيارات الشرطة، الكثير من الناس يلتفون حول شىء ما. كاميرات تليفزيونية تملأ المكان، ربما يصورون مشهداً درامياً أمام هذا الفندق الشهير. كان دائماً يشعر بدوار من الأماكن المرتفعة، لكنه لم يشعر بشىء من هذا القبيل فى هذه اللحظة. على العكس إنتابه شعور غريب بالتحليق فوق هذا المكان. لم تمر دقيقة حتى وجد نفسه بالفعل يقفز من فوق حاجز السطح لكنه لم يحلق فوق المكان بل سقط منه... بشدة... و سرعة....

لحظات قليلة مرت بسرعة كبيرة، أفكاراً كثيرة مرت بسرعة جنونية، كم من المرات التى أحب فيها و تجاهله من يحب، كم من المرات تخلى هو عمن يحب حتى تزوجن و تمنى لو رجع الزمن به للوراء ليغيّر من الأحداث. لكن فات الأوان. إنها ليست المرة الأولى. مرت أمام عينيه كل تجاربه السابقة فى سرعة خاطفة. توقفت ذاكرته عند تجربته الأخيرة. كان يعلم جيداً أنها كانت تحبه لكنه تردد كثيراً فتزوجت بشخص آخر. إن جمالها و سعادتها يجعلانه يندم أشد الندم. كم تمنى أن يكون هو معها فى هذا اليوم يحتفلان سوياً.

كل هذه الأفكار مرت فى جزء من الثانية حتى وجد نفسه يهوى من أعلى المبنى ، وصل إلى أسفله فى سرعة قاتلة. لكنه لم يصب بأى ضرر و لم يشعر بأى ألم، قام و وقف فى مكانه، لاحظ حوله خطوطاً بيضاء على الأرض لم يدرك معناها. إبتعد قليلاً فرأى الخطوط البيضاء ترسم حدوداً لجسد بشرى ملقى على الأرض. تمتزج الخطوط البيضاء بلون أحمر داكن لزج . شريط أصفر يحيط بالمكان، سيارتى شرطة و إسعاف تقفان خارج المنطقة. بعض المارة يتبادلون نظرات الأسى و يواسون بعض الأشخاص الذين قد إنهاروا من المشهد. إنه يستطيع أن يميز هؤلاء الأشخاص، هم يشبهون عائلته كثيراً. لمح بطرف عينه ممرضى الإسعاف يحملون جسداً إلى داخل سيارتهم. إن وجه هذا الشاب الغارق فى دمائه يشبهه كثيراً. إنه هو! كلا أنا لم أمت، أنا مازلت هنا حى أرزق. لا لا تغطيان وجهى.

سارع إلى أهله يطمئنهم، لكنهم لم يشعروا به بل إندمجوا فى بكاء حار – المارة يتهامسون أن شاب أثقلته ضغوط الحياة فساقته إلى حتفه. كلا، إنه لم يقفز من أعلى هذا المبنى ندماً على عمر ضاع أو أحلام تركها تفلت من يداه أو حبيب تجاهله. إنه مازال هنا، حى يرزق، أم هو مجرد طيف روحه الهائمة التى رفضتها الأرض عندما كانت تسكن جسده و لفظتها السموات خارجاً عندما تحررت من الجسد. هل يبقى هائماً حتى النهاية؟ متى تكون النهاية؟